رحلتي عبر ثلاث دول
الأب / بونيفاسيو أبااب

أنا الأب بونيفاسيو أوتينتكو أبااب جونيور، مبشّر فلبيني من جماعة كومبوني. أنا الأكبر بين ثمانية أشقاء. أعمل مُدرِّسًا، وقد أُعِدَّ قلبي وعقلي للبعثة. منذ صغري شعرت بانجذاب لخدمة الآخرين — أولًا كمعلم، ثم ككاهنٍ مبشّر.

أول مهمة في إريتريا

في عام 2004، تم تعييني في إريتريا في أول مهمة لي، وهي بلد ذو جذور مسيحية عريقة، وجمال أخّاذ، وصراعات مستمرة. وقد أدهشتني منذ البداية مرونة شعبها وبساطتهم. إن التراث الروحي في إريتريا متجذر بعمق في الحياة اليومية، حيث تتعايش التقاليد الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية في ظل مناخ سياسي صعب.

ولأخدم بصدق، انغمست في الثقافة المحلية وتعلمت لغتين محليتين: التغرينية والكوناما. فتحت هاتان اللغتان أمامي أبواب التواصل الإنساني الحقيقي. كان بإمكاني الوعظ، نعم، لكن الأهم من ذلك أنني كنت قادرًا على الاستماع والمرافقة والصلاة مع الناس بلغتهم الأم.

شمل عملي الاحتفالات الليتورجية والتعليم المسيحي والتكوين. كما قدمت خدمات رعوية للعمال الفلبينيين في الخارج (OFWs)، إذ وجد كثير منهم أنفسهم معزولين في منازل خاصة أو أماكن بعيدة. كنا نحتفل بالقداس معًا، وننظم خلوات روحية، ونحتفل بأعياد الميلاد والذكرى السنوية — لحظات صغيرة أعادت إليهم الشعور بالانتماء.

انتهت مهمتي فجأة في عام 2007 حين طُردتُ من البلاد مع مبشرين أجانب آخرين. كانت رحلة صعبة، لكنني حملت معي نعمة العلاقات، وذكريات الإيمان المشترك، واليقين بأن البذور التي زرعناها ستؤتي ثمارها في الوقت المناسب.

سنوات الخدمة في السودان

في عام 2010، تم تعييني في السودان، حيث قضيت أكثر من عشر سنوات في مناصب مختلفة. بدأتُ في كوستي كمدير مالي للمنطقة الرعوية، ثم انتقلت لاحقًا إلى الخرطوم، حيث شغلت منصب المدير المالي للأبرشية ومدير القسم الثانوي في كلية كومبوني.

تطلبت مسؤولياتي الإدارية الإشراف المالي والمساءلة والإدارة، وغالبًا في ظروف صعبة. لكنني لم أعتبر هذه الأدوار منفصلة عن الرسالة، بل تعبيرًا حيويًا عنها. فالاهتمام بالموارد هو في جوهره اهتمام بالناس؛ إذ يعني ضمان استمرار فتح المدارس، ودفع رواتب المعلمين، ومواصلة تقديم الخدمات للفقراء.

وبينما كنت أتعامل مع الشؤون المالية، واصلت تعميق مهاراتي في اللغة العربية — ولا سيما العربية السودانية — مما ساعدني على التواصل بفعالية في المواقف اليومية، بما في ذلك الحوارات بين الأديان والزيارات الرعوية. كان السياق السوداني، وهو بلد ذو أغلبية إسلامية، يتطلب حساسية ووضوحًا. وقد مكنتني قدرتي على التحدث بالعربية من بناء الثقة والتفاهم المتبادل.

كما خدمتُ المجتمع الفلبيني المهاجر بنشاط. فقد واجه كثير من العمال الفلبينيين في السودان ساعات عمل طويلة وانفصالًا عن عائلاتهم. كنت أقيم قداسًا شهريًا، وأقود لقاءات روحية موسمية، وأزور الفلبينيين في منازلهم ومستشفياتهم وأماكن عملهم. في أوقات الأزمات أو الاحتفالات، كنت حاضرًا كأخٍ وأبٍ روحي.

في كلية كومبوني، رأيت التعليم أداةً للسلام. كان الطلاب المسلمون والمسيحيون يدرسون جنبًا إلى جنب، يتبادلون الأفكار ويكوّنون صداقات. وبصفتي مديرًا للكلية، وجهت الطلاب والمعلمين إلى قيم التعايش والمسؤولية. أصبحت المدرسة أكثر من مجرد مكان للتعلم — بل شاهدًا حيًّا على إمكانية تحقيق الانسجام في عالمٍ منقسم.

الحرب التي غيرت كل شيء

في أبريل 2023، انزلق السودان إلى صراع عنيف. اندلعت اشتباكات مسلحة في الخرطوم، مما أدى إلى حبس الآلاف في منازلهم. لمدة تسعة أيام، اختبأتُ مع إخوتي المبشرين في الطابق السفلي من كلية كومبوني، مع وصول محدود إلى الغذاء والماء، بينما ملأت أصوات إطلاق النار والانفجارات الأجواء.

وعندما تم إجلاؤنا أخيرًا، كانت المدينة مدمَّرة. كانت الشوارع مليئة بالحطام، وجثث المدنيين ملقاة دون دفن، وملأت رائحة الدمار الهواء. تركتُ ورائي مدرسة ومكتبًا ووثائق، لكن الأكثر إيلامًا أنني تركتُ ورائي أشخاصًا: طلابي وأبناء رعيتي وزملائي وأصدقائي.

كانت تلك التجربة هي الأشد ظلمة في رحلتي التبشيرية. ومع ذلك، في عمق تلك الظلمة، التقيت بالمسيح المصلوب لقاءً أكثر حميمية من أي وقت مضى. فهمت بوضوح تام ما يعنيه أن تعاني مع الناس، وأن تسير معهم عبر المخاطر، وأن تترك كل شيء بين يدي الله.

المهمة الجديدة في مصر

بعد الإجلاء، نُقلتُ إلى مصر، حيث أعمل الآن مساعدًا ماليًا لمقاطعة كومبوني – منطقة مصر، وممثل للرهبانية على مدرسة العائلة المقدسة للبنين في حلوان، وهي منطقة تقع جنوب القاهرة.

شعرت عند وصولي إلى مصر أنني أخطو خطوة جديدة في مهمة جديدة، وفي الوقت نفسه أواصل الرحلة ذاتها. تتمتع الجالية المسيحية في مصر، وخاصة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بتراثٍ غني وعريق. ومع ذلك، فإن التحديات الراهنة حقيقية للغاية: الفقر، والتوترات الدينية، والسعي إلى تعليم جيد.

تاريخ مدرسة العائلة المقدسة

تتمتع مدرسة العائلة المقدسة للبنين في حلوان بتاريخ طويل ومشرّف. تأسست عام 1887 على يد المبشرين الكومبونيين، مستوحاة من رؤية القديس دانيال كمبوني للتنمية الإنسانية والإيمانية عبر التعليم. في وقتٍ كانت فيه حلوان منطقة نامية على ضفاف نهر النيل، رأى المبشرون الحاجة الملحّة إلى تعليم يشكّل عقول وشخصيات الصبية الصغار، الذين كان معظمهم من أسر عاملة أو مهمشة.

منذ بداياتها، ركزت المدرسة على الانضباط والكرامة الإنسانية والاحترام المتبادل بين الثقافات، والتميز الأكاديمي. وعلى الرغم من التغيرات السياسية والأزمات الاقتصادية، ظلت المدرسة مفتوحة، متكيفة مع الواقع الجديد ومتمسكة برسالتها. لقد مر عبر أبوابها آلاف الطلاب، مسلمين ومسيحيين على حد سواء، وكثير منهم أصبحوا أطباء ومهندسين ومعلمين وقادة في المجتمع المصري.

واليوم، بصفتي ممثل الرهبانية على المدرسة، أُعهد إليّ بمواصلة هذا التاريخ. تخدم المدرسة أكثر من 1500 طالب، من رياض الأطفال إلى المرحلة الثانوية. يعاني بعضهم من صعوبات في التعلم أو من تفككٍ أسري، ونحن نقدم لهم ليس فقط التعليم، بل مكانًا آمنًا يشعرون فيه بالانتماء والأمل.

يتألف طاقم العمل لدينا من مزيج من الإداريين العلمانيين والمعلمين الدينيين، متحدين في مهمة التكوين المتكامل. نحن نركز على النمو الأكاديمي جنبًا إلى جنب مع غرس القيم واحترام التنوع والمسؤولية الاجتماعية. وكما هو الحال في مؤسسات كمبوني الأخرى، فإن مدرسة العائلة المقدسة ليست مجرد مدرسة، بل مكان تكون فيه الشهادة بالفعل لا بالكلام فقط.

المؤمن هو الذي يدعو

من إريتريا إلى السودان، والآن إلى مصر، امتدت رحلتي الإرسالية عبر مناظر طبيعية، ولغات، وظروف متغيرة. كانت هناك أوقات من الفرح العميق والحزن المرير. احتفلت بالحياة في قرى جبلية نائية، وحزنت على الخسارة في مدن دمرتها الحرب. لكن خلال كل ذلك، تعلمت أن الرسالة ليست عن السيطرة أو النجاح، بل عن الإخلاص.

إنها تتعلق بالظهور حين تكون متعبًا، وبالثقة في البذور التي تزرعها، وبحب الناس حتى عندما تعلم أنك قد تضطر إلى تركهم. تتعلق بالتخلي عن خططك بسهولة، والتشبث بدعوة الله بقوة.

لقد شكلني الأشخاص الذين خدمتهم: كبار السن في إريتريا، والطلاب في السودان، والعمال في القاهرة. أحمل معي قصصهم وضحكاتهم ودموعهم. وأنا ممتن لعائلة كمبوني التي تواصل إرسالنا إلى الأطراف، حيث ينتظرنا المسيح.

وقبل كل شيء، أنا ممتن للمسيح المبشّر، الذي يسير أمامي. فهذه المهمة ليست مهمتي، بل مهمته. وحيثما يرسلني — إلى المنفى أو إلى السلام — سأذهب.

By mudir